الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي رواية لأحمد عن بعض نسائه عليه الصلاة والسلام أنها قالت: يا رسول الله فإن لم تستطع إحدانا أن تأتيه قال: إذا لم تستطع إحداكن أن تأتيه فلتبعث إليه زيتًا يسرج فيه فإن من بعث إليه بزيت يسرج فيه كان كمن صلى فيه، وروى بعضه أبو داود، وهو ثاني مسجد وضع في الأرض لخبر أبي ذر قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولًا؟ قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: كم بينهما قال: أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة فصل فإن الفضل فيه، وقد أسسه يعقوب عليه السلام بعد بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة بما ذكر في الحديث وجدده سليمان أو أتم تجديد أبيه عليهما السلام بعد ذلك بكثير، والكلام فيما يتعلق بذلك مفصل في محله {لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا} أي لنرفعه إلى السماء حتى يرى ما يرى من العجائب العظيمة، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من صخرة بيت المقدس كما تقدم واجتمع في كل سماء مع نبي من الأنبياء عليهم السلام كما في صحيح البخاري.وغيره، واطلع عليه الصلاة والسلام على أحوال الجنة والنار ورأى من الملائكة ما لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى.ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة والسلام رأى ليلة المعراج في مملكة الله تعالى خلقًا كهيئة الرجال على خيل بلق شاكين السلاح طول الواحد منهم ألف عام والفرس كذلك يتبع بعضهم بعضًا لا يرى أولهم ولا آخرهم فقال يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: ألم تسمع قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31]. فأنا أهبط وأصعد أراهم هكذا يمرون لا أدري من أين يجيئون ولا إلى أين يذهبون، وقد صلى صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم السلام في بيت المقدس، وقال في العقائق وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام بهم ركعتين قرأ في الأولى قل يا أيها الكافرون وفي الثانية الإخلاص؛ وقال بعضهم: كانت دعاء، وذكر أن الأنبياء كانوا سبعة صفوف ثلاثة منهم مرسلون وأن الملائكة عليهم السلام صلت معهم وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام كما قال القاضي زكريا في شرح الروض، والحكمة في ذلك أن يظهر أنه أمام الكل عليه الصلاة والسلام، وهل صلى بأرواحهم خاصة أو بها مع الأجساد فيه خلاف، وكذا اختلف في أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم قبل العروج أو بعده فصحح الحافظ ابن كثير أنه بعده وصحح القاضي عياض وغيره أنه قبله، وجاء في رواية أنه عليه الصلاة والسلام صلى في كل سماء ركعتين يؤم أملاكها، وكان الإسراء والعروج في بعض ليلة واحدة، وكان رجوعه صلى الله عليه وسلم على ما كان ذهابه عليه ولم يعين مقدار ذلك البعض، وكيفما كان فوقوع ما وقع فيه من أعجب الآيات وأغرب الكائنات، وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع وجد فراشه لم يبرد من أثر النوم، وقيل: إن غصن شجرة أصابه بعمامته في ذهابه فلما رجع وجده بعد يتحرك، وزعم بعضهم أن ليلة الإسراء غير ليلة المعراج وظاهر الآية على ما سمعت يقتضي أنهما في ليلة واحدة؛ وإنما أسري به صلى الله عليه وسلم أولًا إلى بيت المقدس وعرج به ثانيًا منه ليكون وصوله إلى الأماكن الشريفة على التدريج فإن شرف بيت المقدس دون شرف الحضرة التي عرج إليها على ما قيل، وقيل: توطينًا له عليه الصلاة والسلام لما في المعراج من الغرابة العظيمة التي ليست في الإسراء وإن كان غريبًا أيضًا، وقيل: لتتشرف به أرض المحشر ذهابًا وإيابًا، وقيل: لأن باب السماء الذي يقال مصعد الملائكة عليهم السلام على مقابلة صخرة بيت المقدس فقد نقل عن كعب الأحبار أنه قال: إن لله تعالى بابًا مفتوحًا من سماء الدنيا إلى بيت المقدس ينزل منه كل يوم سبعون ألف ملك يستغفرون لمن أتى بيت المقدس وصلى فيه فأسريه به صلى الله عليه وسلم إلى هناك أولًا ثم عرج به ليكون صعوده على الاستواء، وقيل: إن اسطوانات المسجد قالت ربنا حصل لنا من كل نبي حظ وقد اشتقنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأرزقنا لقاءه فبدىء بالإسراء به إلى المسجد تعجيلًا للإجابة، وقيل: غير ذلك.وعبر بمن الدالة على التبعيض لأن إراءة جميع آيات الله تعالى لعدم تناهيها مما لا تكاد تقع ولو قيل آياتنا لتبادر الكل، وربما يستعان بالمقام على إرادته واستشكل بأنه كيف يرى نبينا صلى الله عليه وسلم بعض الآيات ويرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض كما نطق به قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والأرض} [الأنعام: 75]، وفرق بين الحبيب والخليل، وأجيب بأن بعض الآيات المضافة إليه تعالى أشرف وأعظم من ملكوت السموات والأرض كما قال تعالى: {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى} [النجم: 18]، وقال الخفاجي: السؤال غير وارد لأن ما رآه إبراهيم عليه السلام ما فيها من الدلائل والحجج وليس ذلك مقاومًا للمعراج فتأمل.وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية لنرى محمدًا صلى الله عليه وسلم للناس آية من آياتنا أي ليكون عليه الصلاة والسلام آية في أنه يصنع الله تعالى ببشر هذا الصنع، ويندفع بهذا السؤال المذكور إلا أنه احتمال في غاية البعد، ثم لا يخفى أنه ليس في الآية إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء إذ لا يصدق عليه تعالى أنه من آياته بل لا يصدق سبحانه أنه آية، نعم مثبتو الرؤية يحتجون بغير ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وكذا ليست الآية نصًا في المعراج بل هي نص في الإسراء دونه إذ يجوز حمل بعض الآيات على ما حصل له صلى الله عليه وسلم في الإسراء فقط بل قال بعضهم: ليس في الآيات مطلقًا ما هو نص في ذلك، من هنا قالوا: الإسراء إلى بيت المقدس قطعي ثبت بالكتاب فمن أنكره فهو كافر والمعراج ليس كذلك فمن أنكره فليس بكافر بل مبتدع؛ وكأنه سبحانه إنما لم يصرح به كما صرح بالإسراء رحمة بالقاصرين على ما قيل، وفي التفسير الخازني أن فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط دون السماء أنه لو ذكر صعوده عليه الصلاة والسلام لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسري به إلى بيت المقدس وبان لهم صدقه فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بمعراجه إلى السماء فكان الإسراء كالتوطئة للمعراج اه، وهذا ظاهر في الخبر الوارد في هذا الباب لا في الآية لأنه لم يخبر فيها بالمعراج كما أخبر فيها بالإسراء دلالة، وقيل: إن الإشارة بعد ذلك التصريح كافية فتدبر، وصرف الكلام من الغيبة التي في قوله سبحانه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} إلى صيغة المتكلم المعظم في {بَارَكْنَا مِنْ ءاياتنا} لتعظيم البركات والآيات لأنها كما تدل على تعظيم مدلول الضمير تدل على عظم ما أضيف إليه وصدر عنه كما قيل إنما يفعل العظيم العظيم، وقد ذكروا لهذا التلوين نكتة خاصة وهي أن قوله تعالى: {الذى أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا}يدل على مسيره عليه الصلاة والسلام من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فهو بالغيبة أنسب وقوله تعالى: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} دل على إنزال البركات فيناسب تعظيم المنزل والتعبير بضمير العظمة متكفل بذلك، وقوله سبحانه: {لِنُرِيَهُ} على معنى بعد الاتصال وعز الحضور فيناسب التكلم معه، وأما الغيبة فلكونه صلى الله عليه وسلم إذ ذاك ليس من عالم الشهادة ولذا قيل إن فيه إعادة إلى مقام السر والغيبوبة من هذا العالم والغيبة بذلك اليق وقوله تعالى: {مِنْ ءاياتنا} عود إلى التعظيم كما سبقت الإشارة إليه، وأما الغيبة في قوله عز وجل: {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} على تقدير كون الضمير له تعالى كما هو الأظهر وعليه الأكثر فليطابق قوله تعالى: {بِعَبْدِهِ} ويرشح ذلك الاختصاص بما يوقع هذا الالتفات أحسن مواقعه وينطبق عليه التعليل أتم انطباق إذ المعنى قربه وخصه بهذه الكرامة لأنه سبحانه مطلع على أحواله عالم باستحقاقه لهذا المقام، قال الطيبي: أنه هو السميع لأقوال ذلك العبد البصير بأفعاله بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الهوى مقرونة بالصدق والصفا مستأهلة للقرب والزلفى، وأما على تقدير كون الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم كما نقله أبو البقاء عن بعضهم وقال: أي السميع لكلامنا البصير لذاتنا، وقال الجلبي: إنه لا يبعد، والمعنى عليه إن عبدي الذي شرفته بهذا التشريف هو المستأهل له فإنه السميع لأوامري ونواهي العامل بهما البصير الذي ينظر بنظرة العبرة في مخلوقاتي فيعتبر أو البصير بالآيات التي أريناه إياها كقوله تعالى: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} [النجم: 17]. فقيل لمطابقة الضمائر العائدة عليه وكذا لما عبر به عنه من قوله سبحانه: {عَبْدِهِ}، وقيل: للإشارة إلى اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالمنح والزلفى وغيبوبة شهوده في عين بي يسمع وبي يبصر، ولا يمتنع إطلاق السميع والبصير على غيره تعالى كما توهم لا مطلقًا ولا هنا، قال الطيبي: ولعل السر في مجىء الضمير محتملًا للأمرين الإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم إنما رأى رب العزة وسمع كلامه به سبحانه كما في الحديث المشار إليه آنفًا فافهم تسمع وتبصر، وتوسيط ضمير الفصل إما لأن سماعه تعالى بلا إذن وبصره بلا عين على نحو لا يشاركه فيه تعالى أحد وإما للإشعار باختصاصه صلى الله عليه وسلم بتلك الكرامة.وزعم ابن عطية أن قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} وعيد للكفار على تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الإسراء أي إنه هو السميع لما تقولون أيها المكذبون البصير بما تفعلون فيعاقبكم على ذلك.وقرأ الحسن {لِيُرِيَهُ} بياء الغيبة ففي الآية حينئذٍ أربع التفاتات. اهـ.
|